فصل: (سورة الملك: آية 5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

سورة الملك مكية، وهي ثلاثون آية، نزلت بعد الطور، وتسمى: الواقية، والمنجية، لأنها تقى وتنجي قارئها من عذاب القبر.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

.[سورة الملك: الآيات 1- 4]

{تبارك الّذِي بِيدِهِ الْمُلْكُ وهُو على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ (1) الّذِي خلق الْموْت والْحياة لِيبْلُوكُمْ أيُّكُمْ أحْسنُ عملا وهُو الْعزِيزُ الْغفُورُ (2) الّذِي خلق سبْع سماواتٍ طِباقا ما ترى فِي خلْقِ الرّحْمنِ مِنْ تفاوُتٍ فارْجِعِ الْبصر هلْ ترى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمّ ارْجِعِ الْبصر كرّتيْنِ ينْقلِبْ إِليْك الْبصرُ خاسِئا وهُو حسِيرٌ (4)}
{تبارك} تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين {الّذِي بِيدِهِ الْمُلْكُ} على كل موجود {وهُو على كُلِّ} ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة {قدِيرٌ} وذكر اليد مجاز عن الإحاطة بالملك والاستيلاء عليه. والحياة: ما يصح بوجوده الإحساس. وقيل: ما يوجب كون الشيء حيا، وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر. والموت عدم ذلك فيه، ومعنى خلق الموت والحياة: إيجاد ذلك المصحح وإعدامه. والمعنى: خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون {لِيبْلُوكُمْ} وسمى علم الواقع منهم باختيارهم (بلوى) وهي الخبرة استعارة من فعل المختبر. ونحوه قوله تعالى: {ولنبْلُونّكُمْ حتّى نعْلم الْمُجاهِدِين مِنْكُمْ}. فإن قلت: من أين تعلق قوله: {أيُّكُمْ أحْسنُ عملا} بفعل البلوى؟ قلت: من حيث أنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل: ليعلمكم أيكم أحسن عملا، وإذا قلت: علمته أزيد أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه، كما تقول: علمته هو أحسن عملا. فإن قلت: أتسمى هذا تعليقا؟ قلت: لا، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعا، كقولك: علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق. ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدرا بحرف الاستفهام وغير مصدر به، ولو كان تعليقا لا فترقت الحالتان كما افترقتا في قولك: علمت أزيد منطلق. وعلمت زيدا منطلقا. أحْسنُ عملا. قيل: أخلصه وأصوبه، لأنه إذا كان خالصا غير صواب لم يقبل، وكذلك إذا كان صوابا غير خالص، فالخالص: أن يكون لوجه اللّه تعالى، والصواب: أن يكون على السنة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلاها، فلما بلغ قوله: {أيُّكُمْ أحْسنُ عملا} قال: «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم اللّه وأسرع في طاعة اللّه» يعنى: أيكم أتم عقلا عن اللّه وفهما لأغراضه، والمراد: أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل وتستمكنون منه، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، لأن وراءه البعث والجزاء الذي لابد منه. وقدم الموت على الحياة، لأنّ أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم {وهُو الْعزِيزُ} الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل {الْغفُورُ} لمن تاب من أهل الإساءة طِباقا مطابقة بعضها فوق بعض، من طابق النعل: إذا خصفها طبقا على طبق، وهذا وصف بالمصدر. أو على ذات طباق، أو على: طوبقت طباقا.
{مِنْ تفاوُتٍ} وقرئ: {من تفوت}. ومعنى البناءين واحد، كقولهم: تظاهروا من نسائهم. وتظهروا. وتعاهدته وتعهدته، أى: من اختلاف واضطراب في الخلقة ولا تناقض، إنما هي مستوية مستقيمة. وحقيقة التفاوت: عدم التناسب، كأن بعض الشيء يفوت بعضا ولا يلائمه. ومنه قولهم: خلق متفاوت. وفي نقيضه: متناصف. فإن قلت:
كيف موقع هذه الجملة مما قبلها؟ قلت: هي صفة مشايعة لقوله: {طِباقا} وأصلها: ما ترى فيهنّ من تفاوت، فوضع مكان الضمير قوله خلْقِ الرّحْمنِ تعظيما لخلقهنّ، وتنبيها على سبب سلامتهنّ من التفاوت: وهو أنه خلق الرحمن، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب، والخطاب في ما ترى للرسول أو لكل مخاطب. وقوله تعالى: {فارْجِعِ الْبصر} متعلق به على معنى التسبيب، أخبره بأنه لا تفاوت في خلقهنّ، ثم قال: {فارْجِعِ الْبصر} حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة، ولا تبقى معك شبهة فيه.
{هلْ ترى مِنْ فُطُورٍ} من صدوع وشقوق: جمع فطر وهو الشق. يقال: فطره فانفطر. ومنه: فطر ناب البعير، كما يقال: شق وبزل. ومعناه: شق اللحم فطلع. وأمره بتكرير البصر فيهنّ متصفحا ومتتبعا يلتمس عيبا وخللا {ينْقلِبْ إِليْك} أى إن رجعت البصر وكررت النظر لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل وإدراك العيب، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور، أى: بالبعد عن إصابة الملتمس. كأنه يطرد عن ذلك طردا بالصغار والقماءة. وبالإعياء والكلال لطول الإجالة والبرديد.
فإن قلت: كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرّتين اثنتين؟
قلت: معنى التثنية التكرير بكثرة، كقولك: لبيك وسعديك، تريد إجابات كثيرة بعضها في أثر بعض، وقولهم في المثل: دهدرّين سعد القين من ذلك. أى: باطلا بعد باطل. فإن قلت: فما معنى {ثم ارجع}؟ قلت: أمره يرجع البصر، ثم أمره بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى وبالنظرة الحمقاء، وأن يتوقف بعدها ويجم بصره، ثم يعاود ويعاود، إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة، فإنه لا يعثر على شيء من فطور.

.[سورة الملك: آية 5]

{ولقدْ زيّنّا السّماء الدُّنْيا بِمصابِيح وجعلْناها رُجُوما لِلشّياطِينِ وأعْتدْنا لهُمْ عذاب السّعِيرِ (5)}.
{الدُّنْيا} القربى، لأنها أقرب السماوات إلى الناس، ومعناها: السماء الدنيا منكم. والمصابيح السرج، سميت بها الكواكب، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بأثقاب المصابيح، فقيل: ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها {بِمصابِيح} أى بأى مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة، وضممنا إلى ذلك منافع أخر: أنا {جعلْناها رُجُوما} أعدائكم: {لِلشّياطِينِ} الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات وتهتدون بها في ظلمات البر والبحر.
قال قتادة: خلق اللّه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها فمن تأوّل فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به. وعن محمد بن كعب: في السماء واللّه ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم، ولكنهم يبتغون الكهانة ويتخذون النجوم علة. والرجوم: جمع رجم: وهو مصدر سمى به ما يرجم به.
ومعنى كونها مراجم للشياطين: أنّ الشهب التي تنقض لرمي المسترقة منهم منفصلة من نار الكواكب، لا أنهم يرجمون بالكواكب أنفسها، لأنها قارة في الفلك على حالها. وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار، والنار ثابتة كاملة لا تنقص. وقيل: من الشياطين المرجومة من يقتله الشهاب. ومنهم من يخبله. وقيل: معناه وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم النجامون {وأعْتدْنا لهُمْ عذاب السّعِيرِ} في الآخرة بعد عذاب الإحراق بالشهب في الدنيا.

.[سورة الملك: الآيات 6- 12]

{ولِلّذِين كفرُوا بِربِّهِمْ عذابُ جهنّم وبِئْس الْمصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سمِعُوا لها شهِيقا وهِي تفُورُ (7) تكادُ تميّزُ مِن الْغيْظِ كُلّما أُلْقِي فِيها فوْجٌ سألهُمْ خزنتُها ألمْ يأْتِكُمْ نذِيرٌ (8) قالوا بلى قدْ جاءنا نذِيرٌ فكذّبْنا وقُلْنا ما نزّل اللّهُ مِنْ شيْءٍ إِنْ أنْتُمْ إِلاّ فِي ضلالٍ كبِيرٍ (9) وقالوا لوْ كُنّا نسْمعُ أوْ نعْقِلُ ما كُنّا فِي أصْحابِ السّعِيرِ (10) فاعْترفُوا بِذنْبِهِمْ فسُحْقا لِأصْحابِ السّعِيرِ (11) إِنّ الّذِين يخْشوْن ربّهُمْ بِالْغيْبِ لهُمْ مغْفِرةٌ وأجْرٌ كبِيرٌ (12)}
{ولِلّذِين كفرُوا بِربِّهِمْ} أى: ولكل من كفر باللّه من الشياطين وغيرهم عذابُ جهنّم ليس الشياطين المرجومين مخصوصين بذلك. وقرئ {عذاب جهنم} بالنصب عطفا على {عذاب السعير} {إِذا أُلْقُوا فِيها} أى طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة، ويرمى به. ومثله قوله تعالى: {حصبُ جهنّم}. {سمِعُوا لها شهِيقا} إمّا لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها. أو من أنفسهم، كقوله: {لهُمْ فِيها زفِيرٌ وشهِيقٌ} وإما للنار تشبيها لحسيسها المنكر الفظيع بالشهيق {وهِي تفُورُ} تغلى بهم غليان المرجل بما فيه. وجعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم، ويقولون: فلان يتميز غيظا ويتقصف غضبا، وغضب فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء: إذا وصفوه بالإفراط فيه. ويجوز أن يراد: غيظ الزبانية {ألمْ يأْتِكُمْ نذِيرٌ} توبيخ يزدادون به عذابا إلى عذابهم وحسرة إلى حسرتهم. و{خزنتها}: مالك وأعوانه من الزبانية {قالوا بلى} اعتراف منهم بعدل اللّه، وإقرار بأن اللّه عز وعلا أزاح عللهم ببعثة الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه، وأنهم لم يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة، وإنما أتوا من قبل أنفسهم، واختيارهم خلاف ما اختار اللّه وأمر به وأوعد على ضده. فإن قلت: {إِنْ أنْتُمْ إِلّا فِي ضلالٍ كبِيرٍ} من المخاطبون به؟ قلت: هو من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين، على أنّ النذير بمعنى الإنذار. والمعنى: ألم يأتكم أهل نذير. أو وصف منذروهم لغلوهم في الإنذار، كأنهم ليسوا إلا إنذارا، وكذلك {قدْ جاءنا نذِيرٌ} ونظيره قوله تعالى: {إنّا رسُولُ ربِّ الْعالمِين} أى حاملا رسالته.
ويجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول: أرادوا حكاية ما كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا. أو أرادوا بالضلال: الهلاك. أو سموا عقاب الضلال باسمه. أو من كلام الرسل لهم حكوه للخزنة، أى قالوا لنا هذا فلم نقبله {لوْ كُنّا نسْمعُ} الإنذار سماع طالبين للحق. أو نعقله عقل متأمّلين. وقيل: إنما جمع بين السمع والعقل، لأنّ مدار التكليف على أدلة السمع والعقل. ومن بدع التفاسير: أنّ المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأى، كأنّ هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل اللّه وعيدهم، وكأن من كان من هؤلاء فهو من من الناجين لا محالة، وعدّة المبشرين من الصحابة: عشرة، لم يضم إليهم حادي عشر، وكأن من يجوز على الصراط أكثرهم لم يسمعوا باسم هذين الفريقين {بِذنْبِهِمْ} بكفرهم في تكذيبهم الرسل {فسُحْقا} قرئ بالتخفيف والتثقيل، أى: فبعدا لهم، اعترفوا أو جحدوا، فإنّ ذلك لا ينفعهم.

.[سورة الملك: الآيات 13- 14]

{وأسِرُّوا قولكُمْ أوِ اجْهرُوا بِهِ إِنّهُ علِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) ألا يعْلمُ منْ خلق وهُو اللّطِيفُ الْخبِيرُ (14)}.
ظاهره الأمر بأحد الأمرين: الإسرار والإجهار. ومعناه: ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم اللّه بهما، ثم أنه علله ب {إِنّهُ علِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أى بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها، فكيف لا يعلم ما تكلم به. ثم أنكر أن لا يحيط علما بالمضمر والمسر والمجهر {منْ خلق} الأشياء، وحاله أنه {اللطيف الخبير}، المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن. ويجوز أن يكون {منْ خلق} منصوبا بمعنى: ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله. وروى أنّ المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء، فيظهر اللّه رسوله عليها، فيقولون: أسروا قولكم لئلا يسمعه إله محمد، فنبه اللّه على جهلهم. فإن قلت: قدرت في {ألا يعْلمُ} مفعولا على معنى: ألا يعلم ذلك المذكور مما أضمر في القلب وأظهر باللسان من خلق، فهلا جعلته مثل قولهم: هو يعطى ويمنع، وهلا كان المعنى: ألا يكون عالما من هو خالق، لأنّ الخلق لا يصح إلا مع العلم؟
قلت: أبت ذلك الحال التي هي قوله: {وهُو اللّطِيفُ الْخبِيرُ} لأنك لو قلت: ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير: لم يكن معنى صحيحا، لأنّ {ألا يعلم} معتمد على الحال.
والشيء لا يوقت بنفسه، فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء.

.[سورة الملك: آية 15]

{هُو الّذِي جعل لكُمُ الْأرْض ذلُولا فامْشُوا فِي مناكِبِها وكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وإِليْهِ النُّشُورُ (15)}.
المشي في مناكبها: مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية، لأنّ المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشى في مناكبها لم يترك. وقيل: مناكبها جبالها. قال الزجاج: معناه سهل لكم السلوك في جبالها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها، فهو أبلغ التذليل. وقيل جوانبها. والمعنى: وإليه نشوركم، فهو مسائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم.